قبرٌ يحتضن جورية في مشفى الشفاء الطبي
المشهد في السماء كان يبدو كأن الحياة تسير بطبيعة الحال كما اعتدنا، فاحتفظت السماء بزرقتها والغيوم مترامية بعد يومين ممطرين، وكانت قد طارت في السماء بعض العصافير، فأغلقت عينيّ عن مشهد القبور، واستمعت لصوت الصغار يضحكون ويلهون بالقفز بين الأضرحة والقبور، أو على ما تبقى من ركام بعض مباني المجمع التي تعرضت للقصف والنسف.
مع ساعات الغروب يبدو المشهد ملهماً، رغم أنني أقف على مقبرة فيها عشرات الأضرحة الفقيرة، فلم تغلق هذه القبور بالرخام، ولم تحفر أسماء الجثامين والأشلاء عليها بالأحمر كما جرت العادة، بل كان شاهد القبر في كل ضريح أما باب ثلاجة مكسور أو قطعة معدن مستطيلة تستخدم في طبيعة الحال للمخازن كرفوف لحفظ الأشياء، وكان شاهد بعض القبور ورق كرتون ومكتوب عليه اسم الشهيد/ة مع مكان السكن الأصلي، فوجدت تنوعاً خارقا للجغرافيا في الأسماء (الشاطئ، الشعف، الزيتون وووو) كل حي ومنطقة من غزة قد دفنت في مجمع الشفاء الطبي.
المشهد في السماء كان يبدو كأن الحياة تسير بطبيعة الحال كما اعتدنا، فاحتفظت السماء بزرقتها والغيوم مترامية بعد يومين ممطرين، وكانت قد طارت في السماء بعض العصافير، فأغلقت عينيّ عن مشهد القبور، واستمعت لصوت الصغار يضحكون ويلهون بالقفز بين الأضرحة والقبور، أو على ما تبقى من ركام بعض مباني المجمع التي تعرضت للقصف والنسف.
مائة يوم مرت على الحرب صار تكفين الجثامين أمراً طبيعياً من الممكن أن تشاهده بصورته الاعتيادية قرب موقد مشتعل لإعداد وجبة الغذاء الوحيدة أو ربما قد تجد أثناء السير في شوارع مدينة غزة شهداء بالعشرات جثثهم ملقاة على الأرض، وكانوا قد نزفوا كثيراً حتى ارتقوا.
ما زالت حصيلة الشهداء اليومية بالوتيرة نفسها لكن مع فارق كبير كون مقبرة الشهداء داخل المجمع امتلأت وخشية أن تضيع الجثامين بدأ المُحبين يزرعون جثامين أحببتهم في نفس المنازل التي نزحوا إليها وكأنها جزء من أيامهم وأمنهم وأمانهم، على الرغم من مرارة الأمر، إلا أن وقوع هذه الحرب بضراوتها قد رفعت أسهم البحث عن أرض ليتم مواراة الجثامين فيها الثرى مع إمكانية ثبات القبر كون جيش الاحتلال استهدف المقابر بالنبش بذريعة البحث عن أنفاق، وقد دمر حتى المقابر المعروفة في المدينة منتهكاً كل الشرائع وضارباً الإنسانية بعرض الحائط.
في مقبرة الشفاء تجد التحاماً قوياً بين السماء والأرض مع بداية الغروب، وقد بدت السماء مكتحلة بألوان قاتمة، وإذا دققت النظر أكثر تجد ضريحاً لشهيدة اسمها (نور) كان قد زرع أحداً بجوار الشاهد المعدني لقبرها وردة جورية حمراء وكأنها دلالةُ انسجام الحب والحرب لتميز قبرها بين عشرات القبور.
إن هذه القبور صارت مسبحة المساء، وصارت الأرض وطناً جديداً لجثامين الشهداء في الشمال وغزة المدينة دون أي تصنيف أو رتبة، فالنازحون في خيامهم بجوار -مقبرة الجورية- يعيشون حياة النزوح كاملة بين بغسل الغسيل ونشره بين القبور أو حتى طهي الطعام، ولهو الصغار فصارت (مقبرة الشفاء) مقبرة للأحلام ومقبرة لحياة الاطمئنان للأحياء وللأموات.