نصوص من النزوح | عمر حمّش
مجموعة من النصوص الأدبية القصيرة كتبها الشاعر والأديب الفلسطيني عمر حمّش خلال نزوحه في خيمة جنوبي قطاع غزة في حرب الإبادة الجماعية
منذ 4 أسابيع
الوقت المقدر للقراءة: 16 دقيقة
***
***
***
***
***
***
صيّاد
قرب خيمتي؛ شدّني هدوءُ جاري الجديد، حتى فرحتُ مستبشرا بأحاديث شيقة قادمة، لكنّه فاجأني بملاحقته للذباب، وقتله له بيديه؛ كمصطاد ماهر.
بعدها قام؛ فانطلق صراخه داخل خيمته:
أنا الله نكبني فيك.
وزوجته تقول:
يا زلمة وطّي صوتك .. فضحتنا.
***
ليلٌ ..
قلقٌ فوق الخيام، قلبي خُلق للالتقاط، والسكونُ مظلةٌ سريّة؛ تهبطُ معها طيور، وذبذباتُ هذا الليلِ هدير ..
من قربٍ طفلةٌ خافتةً تطالبُ بالطعام؛ تُسكتها أمّها.
تعضُّني آلةُ عضٍّ.
من بعيدٍ يأتي نواح:
جننتوني .. حرام عليكم.
ورجلٌ يصيح:
وحدي الله يا امرأة..
يعمُّ الكونَ عواء
ويأتي أزيزٌ، ويقوى .. يقطّع مرايا القلوب، ويسطعُ ضَوءٌ، ويأتي انفجار .. تهرولُ أبواقٌ، ويعلو هياج، والنازحون يتسمّعُون، ويسألُون عن موقع سقوط القنبلة.
***
لحظة جنوح
أمسك بحلقيَ الاختناقُ، وهدّني الضجرُ، وحرتُ في ما أفعله.
وكان النازحون داخل قماشِ الخيام، أو خارجه؛ يسيطرُ عليهم الوجوم، ويملؤهم القلق؛ حين بحثتُ عن تسجيلٍ قديمٍ في هاتفي، كنتُ حفظته من قبل هذه الحربِ اللعينة، ولمّا عثرتُ عليه؛ أشعلته.
في لحظةٍ غرق الناظرون في العجب، واحتاروا، وعيونهم بحزنٍ تقول:
جُنّ الرجل.
وللحقّ؛ حتى أنا أصابني الشكّ في أمري، ومثلهم لم أفهم ما فعلتُ، وأمّ كلثومٍ تصدح لي، ولهم:
أنت عمري.
***
نازحٌ أنيقٌ
في الخيمةِ قضى الليلَ؛ يفركُ قماشَ حذائه الأبيضَ بالفرشاةِ المبلّلة .. يتأمله، ويعاودُه من جديدٍ ..
في الصباح صبر، حتى جفّفته شمسُ المخيم، ثمّ برفقٍ انتعله، وشرع يخطو، كمتنقلٍ على بيضٍ، وعيناه أسفله؛ تتخيران آلية الخطو.
لكنْ طفلةً دهمت الرمل، وعفرته، ثمّ فرّت، من غير أن تفهم سببَ توقفه، ولا تحديقته المتوثبة.
***
أمواج
وفي خيمتي جاءني؛ أنّ البحرَ من بعد رقرقةٍ ارتفع، حتى حسبتُ الأمواجَ جبالا تندفعُ، ورأيتُ جموع النازحين؛ يستعيذون، ويحوقلون، وبدؤوا بسحب ما تبقى في الخيامِ من متاعٍ، ومن أفرشة.
وخطوتُ متفرسا، لكني عجبتُ لسكينةٍ طرأت، ورأيتُ أمّ خليلٍ تسبقني، وتهللُ، وقد خرجت من عبوسها، وشهقتْ الناسُ؛ وهي تعبرُ، والأمواجُ تصطفّ؛ وتنحني، وأمّ خليلٍ تهدهدها كحملانٍ، وعلى مدى العينِ تستكين.
ثمّ جاءتنا موجةٌ من الأفق البعيد، واستدار الموجُ كله، ليبتسم للموجةِ القادمة، وكانت تتقلّبُ، وتغير قوامها؛ حتى بانت لنا جملا بأحمالٍ، وشدّنا ما جرى، حتى انجلى الأمرُ، واستقرتْ الموجةُ الجمل بين يديّ أمّ خليلٍ، وعن ظهرها نزل أفرادُ الركبِ، وتبينوا لنا سالمين، وبأطرافٍ كاملة، بلا تقطيعٍ فيهم، وبلا نقصان، وصحتُ، وصاح آلافُ النازحين:
أعادتْ الموجةُ أولاد أمّ خليل.
***
تحت سماءٍ أنا، تغافلُني رسومُ اللازورد العابرة، من على السجّادِ الفسيح، تتلاعبُ به فرشاةُ ريحٍ،
وعلى أرضٍ ببابِ على بحرٍ، يُنكرني، وصار حوتا، بآلاف الفكوك.
سمائي سجادٌ، والريحُ فرشاةٌ، وقلبي توهم بالألوانِ، وعَشق شُربَ جدوى المكوث.
أرضي هنا، وأنا العابرُ فيها، وأطلتُ العبور.
يا خالق الألوان كلّها:
اخترْ لوني، عجزتُ أنا، وهدّني طولُ الرجاء.
يا خالقي:
اخترْ رملي، لأعرفَ قبريَّ القادم فيه.
وهذي سماؤك؛ كم كلمتني، ومنذ الأزل، وطاردِي يأتيني، وقتما شاء.
أرضك رطبةٌ خالقي؛ فاشفق على عطرِها، وقد تبخر بدخان القنابل، قلبي خيمةٌ تجري، وخيمتي قلبي، وأنا منذ عامٍ؛ أعدو إليك، هاربا بالصغارِ، صبحا، ومساء.
***
نحنُ والقمر
وعندما هاجم بحرُ المواصي الخيام، وضجّت النسوةُ، وتسارعن إلى سحبِ صرر المتاع؛ استلّ الرجالُ المجارف، وشرعوا على عجلٍ في صنعِ تلال رمل؛ تحوّط ما تبقى من خيامٍ، لم تمزقها الأمواج.
وأما مَن ساحت خيامهم في المياه العالية، وتشظت فيها نتفا تباعدت؛ فلقد تركوها مع متاعهم تتضارب مع الأمواج العاتية، وكأنها في مغسلةٍ كونيّة، وهم على سيقانهم يتقافزون تقافز المراوغة للسيول الدافعة.
لكنّ المدهش أن الناس صاروا علماءَ جاذبية، ومحللي مدٍّ، وجزرٍ، حتى أنهم كانوا يلتفتون إلى قمر ١٣ هجري، وكخبراء يعلّقون:
وجهه اكتمل إلا قليلا .. إنه الآن قابل البحر مباشرة .. ها هو ينحو ناحية الجنوب.
كلّ هذا والقمر فوقهم أحمر مشعّ.
وفي لحظةٍ كدتُ في هذا؛ أن أمارس الضحك، وأن أكون أهوس مجنونا، حينما جاري كان ارتكز على مجرفته، ورمق بحرقةٍ القمر، ثمّ بصق.
***
الموتُ رَدما.
وسمعنا عن الموتِ اعتلالا، وعن الموتِ شنقا، والموتِ حقْنا، والموتِ صبرا، والموتُ سُمّا، وأنواعٍ أخرى كثيرة.
أمّا الموتُ ردما، فهذا استحداثٌ، وكشفٌ جديد أُكرمونا به، فميزونا أيما تمييز.
فمن من البشرِ مثلنا؛ يكون في عزّ نومه مع صغاره؛ فلا يدري؛ كيف انتهى أمرُه.
لا ألمٌ، ولا قلقٌ، ولا خشيةٌ من شرٍّ حدث، فغيره بأحبابه في خيمتِه كفيلٌ، وبكثيرٍ من الخيام .. بلا أدنى صوتٍ، فالصوتُ لغيره، أمّا له فالموتُ بخسف خيمته مع عشراتِ الخيام .. ذلك هو الخسفُ الخاطفُ، يخرجُ الباطنَ، ويقلبُه، ويصيرون مع غيرهم، ومن فوقهم طبقاتٌ، وفي الرملِ لا يرون، ولا يسمعون، ولا يفكّرون، ويكونون لبرهةٍ داخل الأرضِ في غيابٍ، من قبل أن يصعدوا خارجين؛ ويحلّقوا فوق الفؤوسِ الباحثة، ونواح النائحين.
***
صمود
حرضني تحريضَ الحكيمِ؛ لمن رآه آيلا إلى السقوط: عزّز صمودك.
في اليوم التالي؛ خرجتُ من خيمتي، قلتُ معه حقٌّ، وسبعون حقّا، وكان النازحون قد حطّوا على الشاطئ حطّ الجراد، تزاحمهم خارج الموج، البغال، والكلابُ، والحمير، وداخله كانوا يتراشقون.
وعبرتُ على نيّة الانخراط؛ حتى ضربتْ الماءَ الجموع، وعبرت البغالُ، ونبحتْ فوقي كلابٌ مجرورة خائفة، ونهقت حميرٌ راجفة، وسمعتُ ضراطا كثيرا، حتى حسبتُ البحر؛ صاح لاعنا هذه الحرب التي قلبته رأسا على عقب.
وتدحرجتُ بين البهائم والناس تدحرجَ الفار، ووصلتُ الرمل؛ فاستلقيتُ، وكانت عينايّ على الخيام؛ حين هرولتْ من خيمتها أم صاحبي ، وشرعت لي تولول: صاحبك مات.
صرختُ: مات؟
وقالت؛ وهي تلهثُ:
اه .. صاحبك فقع .. مات.
***
***
الملائكةُ تمرّ دوما من هنا ..
من البحرِ يخرجون
أو يسقطون كما اللهب ..
على رأسِ كلّ خيمةٍ يتوقفُ ملاكٌ، مع وشاحٍ، بلونِ الحليب، إذ صفا ..
من الموجِ يخرجون إلى الرملِ، مع نورِ المعرفة ..
لطافا كما الأفقِ القريب ..
يتطوون مع الموجِ طيّ الأقمشة ..
وكلّ ثكلى كانت ترقبُ الليلَ، وتتماهى مع الهدير؛ رأت ملاكا كالبصيص، وظنّته قذيفةً
أو سفينة آتية ..
ثمّ رأينَ الملائكةَ تبتسم ..
طيورا كانوا، أو زهورا ..
أتوا بنورِ الله ..
وكلّ ثكلى في الخيامِ ارتوت
***
***
***
يمرّون بي ببضائعهم القليلة .. رجالا، ونساءً، وصبيةَ وبنات .. يمرّون عابسين؛ لكنهم نشطون، يقطرون حزنا؛ لكنهم يصرّون، يضربون في رمال الشاطئ، ويغرسون أقدامهم، وهم يصرخون، ويتركون لي رسوم خطوهم:
شيبسي .. ترمس .. كعك .. وأسماءٌ كثيرة غيرها، وكلّها معتادة، لكن [ لقيمات] هذا النداء أثار جنوني.
هذا الاسم كيف استحضره مطلقه الأوّل، وكيف انتشر، ودخل قاموس الباعة الجوالة على شواطئ مواصي خان يونس؟
بل وكيف تقبله المهاجرون، وابتلعوه؟
وصار الولد ينادي: أمي عاوز لقيمات.
وأخرى تقول: أشتري لك لقيمات؟
لقيمات؟
يا لهول المفردة، وكأنها جاءت تستجيب، وأرى الاسم الغريب؛ أتى من عصر سحيق، ربما عباسي، وربما فاطمي، هو هكذا غريبٌ، وليس من عصرنا.
لقيمات ..
ويدفعني الفضول؛، وأزاحم إلى طبق التوتياء السائر، وأسرق نظرةً لتلك العجيبة؛ لأجدها قطع عجينٍ استدارت، وسُيّخت على عيدان، ثمّ خبزت، حتى احمّرت قليلا، وبدت كالكباب الذي كنا نشمّه على أبواب المطاعم، أيام كنا أحياء.
***
أخلاط
تناثرت بناياتُ المدرسةُ، وتطايرت الناسُ، واختلط اللحمُ باللحمِ، وكلّ شيءٍ صار عجينا ..
احتار القائمون؛ فقدّروا أوزان المفقودين تقديرا.
ذهبتْ لاستلامِ طفلها، فمنحوها كيسا، وأوقفها الشكُّ، فجثت ..
فتحت الرباط؛ فلم يكن رأسٌ، بل ثلاثُ سيقانٍ، وبقايا من ذراعٍ، مع أمعاءٍ، وعظمٍ، ولحمٍ كثير.
تركت الكيس؛ وكانوا واجمين، وهي تقول:
- ولدي هناك..
وسبابتها إلى السماءِ تشير، نحو نقطةٍ معينة.