
إن سكت عودُك، تسكتُ البلاد | إلى ياسر عمر
في بداية التسعينات، كانت لدينا فرقة للدبكة الشعبية، وكنتُ أحد أعضاء هيئتها الإدارية، وكان ينقصنا عازف على العود، على أن يكون ذا شخصية قيادية، ليقود فريق الموسيقى، فتعرفنا على ياسر عمر، الذي كان يعشق محمد عبد الوهاب وسميح شقير.
منذ 5 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 5 دقيقة
في بداية التسعينات، كانت لدينا فرقة للدبكة الشعبية، وكنتُ أحد أعضاء هيئتها الإدارية، وكان ينقصنا عازف على العود، على أن يكون ذا شخصية قيادية، ليقود فريق الموسيقى، فتعرفنا على ياسر عمر، الذي كان يعشق محمد عبد الوهاب وسميح شقير.
وبعد موقف مع مجموعة من الألمان حضروا أحد عروضنا، قررنا أن ننتج أعمالنا الخاصة، فطلبت من ياسر عمر أن يلحن بعض الأغاني، فقال بخوف الفنان الحقيقي: أنا ألحن؟ فقلت له: معظم من في الفرقة "سمّيعة"، فإن صنعت لحنا جميلا، كان بها، وإن لم يكن، فلم نخسر شيئاً، وقد كان.
لحن ياسر عمر ثلاث عشرة أغنية لعرض "بحرك غزة"، لم يشبه لحنٌ فيها الآخر، وبدأ رحلته مع التلحين، إلى اليوم.
ياسر ذو شخصية حادة فيما يتعلق بالفن، كان أحد الدعامات الأساسية لنضوج الفنان محمد عساف، فلطالما عزف له قبل أن يذهب إلى أراب آيدل، ومعظم الأغاني التي غناها محمد في البرنامج، كانت من اقتراحات ياسر عمر، وهذا ما جعل محمد يؤديها وكأنه متعود على غنائها، لأنه كان فعلا كذلك.
زارني قبل سنوات مع محمد عساف في بيتي، وجلسنا نتذكر تلك الأيام، كان ياسر ما يزال هو ذاته، معلم اللغة العربية وعاشقها، وناقد لكل ما لا يراه مناسباً في الفن والحياة، ويحتضن عوده وكأنه خائف أن يهرب من بين يديه، لكن بخفة من يحتضن طائرا يخاف أن يكسر جناحيه.
ياسر ابن رفح، الآن ما يزال في غزة، ينتقل من نزوح إلى نزوح، لا أعرف إن كان عوده قد انتقل معه في طريق النزوح الطويلة، أو إذا كان لديه المزاج ليغني "مدي إيدك يا رفح... زرعك هياتو طرح"، أو "تبعد عن الشط الخطاوي"، وغيرها، لكن ما أعرفه أن عود ياسر لم يسكت، حتى وإن كان هناك بعيدا تحت الأنقاض، فعود ياسر في رأسه أكثر منه بين يديه، تتحرك أصابعه في الهواء صانعةً لحناً، مرةً من كلمات سائد السويركي، ومرة من كلماتي، ومرة من كلمات محمود درويش، بتلك الذائقة الدقيقة في اختيار الكلمات، وما زالت كلمات أغنية "عم جبارة مخو مخشّب" ترن في فضاء غزة، بعد أن تحول معظم سكانها إلى "عم جبارة".
أتمنى يا صديقي أن تبقى بخير، وأن لا يسكت عودك إلى الأبد، فإن سكت عودك، ستسكت البلاد، والبلاد لم يعد لديها غير صوتها لتحكي وجعها، وأنت حبل أصيل من حبال صوتها.
- نشرت أولا في حساب خالد جمعة (اضغط هنا)