0%

مجزرة عائلة الشريف... عن صانع الفرحة في مخيم جباليا


مع حصار المخيم في مايو وإغلاق معبر رفح الذي يعدّ المنفذ الوحيد، أُجهض حلم خالتي طريحة الفراش بالوقوف على قدميها مرة أخرى.


منذ 4 أسابيع
الوقت المقدر للقراءة: 9 دقيقة

قبل ثلاثة أيام من استشهاد والدي خليل أبو الطرابيش، حين ألقى الجيش الإسرائيلي مناشير تفيد بإخلاء مخيم جباليا في مايو/أيار المنصرم من العام الجاري، أعطى أمّي ثمن كفنه وقبره، وأوصاها بألا تترك أختها ختام طريحة الفراش، وأن تطعم الناس وتسقيهم. وصية والدي عن خالتي ختام البالغة 46 عاما، والأمّ لستة أبناء، كانت بسبب إصابتها الحرجة على مستوى الظهر والركبة من جراء قصف إسرائيلي لمنزل لجأت إليه في مخيم جباليا، الأمر الذي تطلّب البحث عن رحلة سفر للخارج بعدما دمر وأحرق الجيش الإسرائيلي جميع مشافي شمال قطاع غزة. ومن خلال السعي، تمت الموافقة على سفرها برفقة أمي. لكن مع حصار المخيم في مايو وإغلاق معبر رفح الذي يعدّ المنفذ الوحيد، أُجهض حلم خالتي طريحة الفراش بالوقوف على قدميها مرة أخرى.

ما زاد من صعوبة وضعها، عدم وجود مسكنات تُخفّف عنها شدة الألم، كما أنها عاشت مرحلة التجويع الذي استمر شهرين، فاجتمع عليها الألم والجوع والشعور بالعجز.. زوجها محمد الشريف (52 عاما)، صاحب محل "معرشات" المشهور بتنظيم الأفراح والحفلات الشبابية، كان معروفاً لدى أبناء المخيم بكنية "أبو جهاد" وقد كانت له بصمة خاصة في صناعة الفرح. بعد نزوح عائلة الشريف أكثر من عشرين مرة داخل أطراف مخيم جباليا خلال الهجمة الإسرائيلية على قطاع غزة وتحديدا مناطق الشمال، استقرت أخيرا في منزلها الواقع بمحيط مشروع بيت لاهيا وتحديدا بالجوار من مسجد القسام.

استهداف منازل في مخيم جباليا

في ليلة 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024، أي في الأسبوع الثالث من الحصار المفروض على المخيم، ألقت الطائرات الحربية، ثلاث قنابل على السطر الجنوبي خلف مسجد القسام، وكان يضم تقريبا سبعة منازل. أقل منزل مكون من ثلاثة طوابق، ويؤوي قرابة 40 شخصا، آخر منزل كان لعائلة الشريف التي تحتمي فيه خالتي وأبناؤها وزوجها.

الشاب محمد سالم (35 عاما) مدرس رياضة كان يحتمي في المنزل المجاور للمربع الممسوح، يقول: "طيلة الليل كنا نسمع صراخاً من بين الأنقاض، انتظرنا بفارغ الصبر قدوم الصباح حتى نتحرك لنجدتهم".

مع بزوغ الصباح اختفت تلك الأصوات، وأضحى كل من في ذلك المربع شهيدا. أعلن بشكل رسمي استشهاد خالتي ختام والعائلة كاملة، وتبين لاحقا أنه كانت معهم أيضا عائلة أخرى من "آل عروق" تحتمي في المنزل، تقريبا كان عدد الشهداء قرابة 15 شهيدا. خلال يومين كاملين من العمل المتواصل، بدأ رجال الدفاع المدني بمساعدة الجيران، بإخراج الجثث من المكان. آخر جثتين تم استخراجهما، لخالتي ختام وابنتها البكر جيهان (24 عاما)، التي عثر على جثتها وهي واقفة تحرس جسد أمها.

ارتقى في المجزرة، الشهيد محمد الشريف (52 عاما)، زوجته ختام عاشور (46 عاما)، الابن إحسان (26 عاما)، الابن مجد (20 عاما)، الابنة روان (23 عاما)، جيهان (24 عاما) وطفلها. من تبقى على قيد الحياة من عائلة خالتي التي مُسحت من السجل المدني، هو مهند (30 عاما) الذي أجبر على النزوح مع زوجته إلى جنوب القطاع.

لم يبق لمهند الناجي الوحيد من العائلة سوى الذاكرة وقليل من الصور، يصف والده بأنه صديقه الكبير، يقول: "وقت كان يصنع الفرحة للناس، لكنه كان في الآن نفسه حريصاً جداً على خلق حياة سعيدة لنا". وعن شقيقه إحسان، يوضح أنه كان "السند والظل، كلما وقفت بجانبه كنت أشعر بالقوة والأمان". أما بخصوص مجد: "فهو كرزة البيت، العقل اليقظ والوجه الجميل". وعلّق على رحيل شقيقتيه :"روان الدفء وجيهان توأم روحي"، أما عن رحيل والدته فقد اكتفى بالقول:" أنا الآن جثة حيّة".

دُفن أغلب الشهداء في تلك المجزرة، في سوق مشروع بيت لاهيا، والسبب تمركز الجيش في محيط مقبرة بيت لاهيا. لك أن تتخيل المكان الذي يحصل فيه الناس في مخيم جباليا وأطرافه على الطعام كيف تحوّل إلى مقبرة مؤقتة. كما أنه لا يمكن وصف حالة شاب بقي على قيد الحياة لوحده، فيما مُسحت عائلته في لمح البصر، حتى أن مهند لا يجد في القواميس ما يصف حالته.

قصّة مهند من بين مئات قصص الفقد واليتم في قطاع غزة، ومن الممكن في يوم من الأيام أن يستجمع قواه ليحكي قصته بالتفاصيل، غير أنه اختصر الحديث بأبيات شعرية مقتبسة من ديوان الشاعر العراقي عبود الجابري التي قال فيها: "كان يسمي أيامه، بأسماء الكواكب البعيدة. كوكب للزهرة، وآخر للنوم، لكنه لم يجد في القواميس، ما يطلقه على كوكب الموت، فيذعن لحياته ثم يموت ويموت على الأرض".

 

الوسوم

شارك


x