0%

حكاية عائلة التلمس الشهيدة



منذ 4 أسابيع
الوقت المقدر للقراءة: 14 دقيقة

في أواخر عام 1998، حين انتقلنا من مربع السنايدة (بلوك 6) إلى منزل جدّي الواقع في (بلوك 7) في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، سلّم والدي المنزل إلى شقيقته، عمّتي هنية المتزوجة من عائلة التلمس التي كانت تسكن في حي السكة شرق المخيم. كان لديها من الأبناء خمسة ذكور وثلاث إناث وزوجها يعمل سائق سيارة أجرة.

بعد عامين، تزوّج ابنها الثاني واسمه رامز كان عمره تقريبا 25 عاما، وكان أول فرحة تزور ذلك المنزل البسيط. رامز كان طوله 206 سم، صوته جهوري، وسيم، وصامت جدا. كان يعمل مدربا للشرطة في السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، ولقبه (حوت المخيم).

حوت مخيم جباليا

مع دخول الانتفاضة الثانية، التحق بصفوف المقاومة، حاله حال أقرانه، وتحديدا مع كتائب القسام، اشتهر رامز في المخيم بأنه أحد الأعمدة الأساسية بالمدفعية الصاروخية، وانتقل لقبه من "حوت المخيم" إلى "حوت القسام". في ذلك الوقت كان قد أنجب طفلتين. روند عامان وسجى عام واحد.

في 9 إبريل/نيسان 2003، وفي غمرة اجتياح قوات الاحتلال منطقة حمودة، النقطة الفاصلة بين مخيم جباليا ومدينة بيت حانون، وخلال نصب رامز وأصدقائه صاروخا موجها كان يطلق عليه "البتار"، باغتته قذيقة مدفعية ارتقى على أثرها شهيدا. كان تلقي العائلة خبر استشهاد رامز، صادما، خاصة أنه الشهيد الأول في عائلتنا.

رامز الثاني والثالث

مرت الأيام؛ بعد 3 أعوام، اضطر ابن عمتي رامي (44 عاما) الشقيق الأصغر لرامز، إلى العودة لقطاع غزة تاركا عمله في الضفة المحتلة، وتزوج زوجة أخيه الشقيق الذي استشهد، إلهام (42 عاما)، ليرعاها ويرعى طفلتيها، وأنجب منها رامز الصغير وثلاثة أطفال آخرين. مع اشتداد القصف المدفعي والحربي على أطراف المخيم، بعد السابع من أكتوبر لعام 2023، نزحت عوائل أقارب عمتي إلى المنزل، منها بناتها المتزوجات، وأشقاء زوجها، تقريبا كان العدد قرابة 60 شخصا، ولأن المنزل صغير، انتقل جزء آخر من عائلة التلمس إلى المنزل المجاور لعائلة نسيب لهم يدعى مجدي عبيد (35 عاما).

قبل غروب يوم 31 أكتوبر 2023، وما إن ركن رامي سيارته على قارعة الطريق، وهمَ لدخول الزقاق الذي يوصله إلى منزله، ارتطم وجهه فجأة في الأرض. رفع رأسه وكأنه وسط عاصفة من الحجارة. كانت تلك اللحظة، حين حوّلت إسرائيل قرابة 40 منزلا مغطى بالقرميد والصفيح إلى حفر كبيرة، ودفن أغلب من كان هناك بتلك الحفر، وبعد مرور عام، لم يعثر على جثث أغلبهم.

وفقا لما تناقله من وسائل إعلام محلية عن الكوادر الطبية في شمال غزة، كانت طائرات الاحتلال الإسرائيلي قد ألقت قرابة 6 قنابل متفجرة على الحي الذي يسكنون فيه، فيما يعرف بمجزرة حي السنايدة الذي استشهد فيه 600 شخص.

استجمع رامي قواه، وبعد قرابة سبع دقائق انقشع غبار القنابل، وبدأ يتعكز إلى أن وصل منزله. خرَ على ركبتيه، حين وجد المنزل حفرة كبيرة. يقول رامي وهو يسترجع شريط ذكرياته: "كان في المنزل قرابة 35 شخصا، زوجتي وأبنائي، وأخواتي وأطفالهن، وبنات عمي، وزوجة عمي، وعمي وأبناءه، لم أفعل شيئا سوى الجلوس على مقدمة الحفرة، وشعرت بأن دماغي قد توقف، هل أنا في كابوس؟ تركت عائلتي قبل ساعات أحياء، عدت ووجدتهم في حفرة كبيرة مغطاة بالركام".

في حي السنايدة، أقل منزل كان يأوي قرابة 40 شخصا من الأطفال والنساء والشيوخ، بحكم أن العوائل الموجودة في مربعه، وبلوك 6 هي منازل الأجداد، كبر فيها الأبناء، وانتقلوا إلى السكن في أماكن مختلفة، ومع اشتداد القصف لجأ هؤلاء مع أطفالهم ونسائهم إلى المنازل التي تربوا فيها.

استشهد في تلك الضربة، حوالي 15 شخصا من عائلة التلمس، اثنين من أبناء رامي، رامز الصغير وشقيقته حلا. يكمل رامي: "سميت رامز نسبة إلى رامز الأول الشهيد، صحيح أن شخصياتنا مختلفة، كان شقيقي رامز صديقي وابني رامز صديقي، يبدو أن اسم رامز في العائلة مقدر أن يموت مبكرا". حتى إن أحد أبناء عمومة رامي، سمى رامز، وقد استشهد أيضا رامز الثالث في المنزل المجاور الذي لجأت إليه نصف عائلة التلمس، وهو منزل عبيد المذكور سلفا. كان رامز الثاني، قوي البنية، ذكيا جدا، يطمح إلى دراسة الهندسة، مخططه هو السفر بعد انتهائه من مرحلة التوجيهي.

الآن، رامي مع زوجته إلهام في رحلة علاج، بعد أن تعرضت لإصابة خطيرة، أما من نجا من عائلته فما زال ينتظر موته في غزة، منهم محاصر في المخيم، وآخرون نزحوا إلى وسط قطاع غزة، يتنقلون من خيمة إلى خيمة.

زوج وابن وأم

من داخل، المنزل ولحظة القصف، كانت الشابة صابرين (32 عاما)، أم لأربعة أطفال، وهي زوجة محمد ابن عمتي - سائق أجرة، تعد طعام الغداء بصحبة نساء. تقول صابرين التلمس: "وأنا أقف في المطبخ، أعدّ الطعام لزوجي العائد من العمل، شعرت بأنني فقدت الوعي، وفجأة استيقظت وجدت نفسي في المشفى الإندونيسي، آخر شيء أذكره، مشهد إعدادي للطعام".

استشهد محمد زوج صابرين، وطفلها مالك (13 عاما)، وأصيبت هي وبنتها الصغيرة رزان. تكمل صابرين الأرملة: "من الصبح كان محمد شغال على السيارة رغم القصف، لما رجع العصر، اتحمم، وكنت أجهز الغداء، قعد مع أخواته النازحات، وراح يعمل خط المياه، وفجأة صارت الضربة، وبدأ الكابوس الذي ما زال يطاردني". واستشهدت أيضا والدة صابرين وتدعى مريم (68 عاما)؛ كانت مقعدة.

تصف صابرين زوجها بالهادئ جدا، وطيب القلب، لكن ما لا تعرفه أنني عشت قرابة عشرة أعوام صديقا له. محمد كان يستطيع فعل كل شيء، لديه خبرة واسعة في الأجهزة الإلكترونية. من بين أحلامه السفر. حاول مرارا وتكرارا ولكن فشلت محاولاته، رغم دخوله عقده الرابع لم ير مدرج طائرة ولم يسمع صوت سكة الحديد. كان متجولا فقط بسيارته في أكبر سجن عُرف في العالم. عاش حزينا يبحث عن حلمه في السفر، ومات وهو ينتظر ما أعدت له زوجته من طعام بسيط.

تقول صابرين: "قبل عام سافر محمد إلى السماء جائعا، لكنني أشعر بأنه سعيد جدا، ورغم أني مقهورة جدا عليه إلا أني أنتظر لقاءه". أما عن طفلها مالك فهو نسخة عن والده كما تصفه.

تعيش صابرين الآن مع طفلتيها، واحدة مصابة في خيمة وسط قطاع غزة، لا تحميها من حر الشمس ولا تقيها من البرد. لا يوجد تفسير لشابة فلسطينية تواصل العيش، بعد أن نجت من مجزرة واستشهد زوجها وطفلها وأمها وأصيبت هي وبنتها وتعيش الآن بين جدران من القماش، سوى أنها بنت الأرض ولها من اسمها نصيب.

بعد عشرين عاما، من أول حالة حزن دخلت عائلة التلمس، يتكرر المشهد ولكن هذه المرة لم يكن شهيد واحد، بل شهيدان وبصحبتهم 10 أطفال وسيدتان.

فيما يلي قائمة أسماء الشهداء: الشهيدة المقعدة مريم التلمس (68 عاما)، الشهيد محمد نافذ التلمس (38 عاما)، الشهيد الطفل مالك محمد التلمس (13 عاما)، الشهيد الفتى رامز رامي التلمس (18 عاما)، الشهيدة الطفلة حلا رامي التلمس (16 عاما)، الشهيد أدهم مازن التلمس (35 عاما)،  الشهيد رامز مازن التلمس (20 عاما)، الشهيد خالدون مازن التلمس (22 عاما)، الشهيدة نجلة التلمس زوجة أدهم (28 عاما)، الشهيد الطفل مازن أدهم التلمس (9 أعوام)، الشهيدة الطفلة مريم أدهم التلمس (3 أعوام)، الشهيدة الطفلة سميرة أدهم التلمس (عامين)، الشهيدة هديل مازن التلمس (33 عاما)، الشهيد مجدي عبيد -زوج هديل- (37 عاما)، الشهيد الطفل أحمد مجدي عبيد (4 أعوام).

 
 

الوسوم

مخيم جباليا عائلة التلمس

شارك


x