السير بين الخيام في ليل غزة
جرب يا صديقي أن تسير بين الخيام ليلًا، كأنك عابرُ شيءٍ ما، لا أستطيع أن أدعوَه سبيل. واستمع إلى ما يقال، لا تلصصًا على أحاديث الطيبين ولكن تصفُّحًا لقلوبهم.
منذ 4 أسابيع
الوقت المقدر للقراءة: 6 دقيقة
جرب يا صديقي أن تسير بين الخيام ليلًا، كأنك عابرُ شيءٍ ما، لا أستطيع أن أدعوَه سبيل. واستمع إلى ما يقال، لا تلصصًا على أحاديث الطيبين ولكن تصفُّحًا لقلوبهم. ألسنتهم تتحدث بلهجات مختلفة، لكنّ قلوبهم تصدر من مشكاةٍ واحدة.. من مأساةٍ واحدة.
هذه خيمة من جباليا، هكذا تقول اللهجة! تلك من بيت حانون؟ ربما.. وسكان هذه اللهجة.. أقصد الخيمة.. من عائلة كذا!.. هكذا يخبرك حدسك اللغوي.. وخبرتك الاجتماعية.
ماذا عن تداعي الأفكار كلما مررت بخيمة؟ كل لهجة تقودك إلى قصة، وكل حديث يذكرك بمشوار.. تضحك وتبتسم وتعبس وتتعادل شعوريًّا، هكذا وحدك بمجرد الإنصات.. فتبدو مخبولًا في عين شخصٍ آخر يمر بالاتجاه المعاكس.. إلا إذا كان مخبولًا حقيقيًّا، أو يمارس الإنصات الوطني ذاته.. حينها لن يسيء الظن فيك.
أمٌّ تهدهد طفلًا، أبٌ يوبخ ولدًا، جدة تصلي، جدٌّ يدق مسمارًا في بقايا منضدة، صوت صرصور الليل.. يقال إنه لا يصدر صوتًا من فمه بل من احتكاك جناحيه.. هل يجد مخبأً لممارسة هذه العادة دون أن يقتلوه؟! مضحك!
ماذا عن الأم التي تهدهد الطفل؟ صوتها يقول إنها مرحة.. وجائعة! كيف ذلك؟ لا أعرف. ولماذا يوبخ الأب ولده؟ وكيف عرفَتْ الجدة أن وقت الصلاة قد دخل ولا أذان ولا مَآذن؟! وهل للمنضدة في يد الجد علاقة بتوبيخ الأب للولد؟! يريد الطفل منضدة ليدرس عليها بعد أن قالوا إن التعليم قد يعود عن بُعد.. ولا يملك الأب ثمن منضدة فيحاول الجد تدبر الأمر؟ ربما!.. ما أحنّ الأجداد!
هذه حارةٌ من خيام.. حارةٌ خيامية.. حارةٌ خَيمية.. حارةٌ خيميائية.. يَنفع خيميائية؟! يقفز إلى ذهنك.. ما اسمه؟ كاولو بويلو؟!.. باولو كويلو! يا للعار! نسيتَ باولو كويلو!! منذ متى لم تفتح كتابًا ورقيًّا؟!! عارٌ عليك! تنسى باولو كويلو! ماذا عن الطفل الذي يريد منضدة؟ هل ينسى مثلك؟! هل نسيَ النشيد الوطني؟! هل نسي مطلع معلقة زهير؟ إذا كان في الثانوية مثلًا! ما علاقة باولو كويلو بالخيام؟ أاه.. الخيميائي.. الحارة الخيمية والخيامية! تذكرت.. ما أخبثَ اللغة.. تلهو بأفكارنا وترمينا في لُججٍ شتى على (سبيل) الخيام!
على ضوء البدر رمقني رجلٌ ستينيٌّ بنظرة غاضبة.. نعم هو.. بروفيسور جامعي أعرفه! هو بالتأكيد لا يعرفني. هل شعر بأنني أغتاب اللغة؟! هو اختصاصي لسانيات - آداب لغة إنجليزية.. أعرفه.. أعرف روحه.. أما هيئتُهُ الشاحبة وجلابيته الممزقة فلا تدل عليه على الإطلاق.. لكنني أتذكر عينيه منذ أيام الجامعة. جالسًا كان على حجرٍ قرب خيمة.. على (سبيل) الخيام.. وقربَه دلو ماءٍ فارغ.. ينتظر طابور الماء في الصباح. الدلو هو الذي ينتظر؟ أم البروفيسور؟! أم الطفل الذي يريد منضدة؟ أم الأم المرِحة الجائعة؟ أم الجدة كي تتوضأ وتصلي بلا أذان؟!
ولم يزل البروفيسور يرمقني بنظرة غاضبة.. جالسًا على حجرٍ قرب خيمة.. على (سبيل) الخيام.. وقربه دلو ماء.
- نشر هذا النص أولا في صفحة محمد العكشية على فيسبوك (المصدر)