بعد الحرب، ماذا ينتظر الناجونَ من الموت؟
في اليوم المئةِ والعشرين من بدايةِ حربِ غزة، وبعد سيلِ المُغامرات الفذَّة التي عِشتُها بالهُروب من الموت المُطَوَقِ حولي من كلِّ مكان كُنت فيه، أو نزحتُ إليهِ، كانَ هذا سُؤالي لِأمِّي عصرًا على حين غرَّة، في سبيلِ أن أحيا وأشعرُ بالحياة لِأَخرُجَ من البؤس الذي أحدقَ في حياتنا "غصب عنا" وقبلَ أن يصلَ اليأس لآخرِ رمقٍ في احتضارهِ داخلي.
لجأتُ للحوار كجلسةٍ صحيَّة مع "أمي" الإنسانة التي سأُعرِّفُ عنها بالامرأةُ المؤمنة الصابرة المُحتسبة قبل أن أُعرفَها بمُسماها العلمي دكتورة علم النفس، التي قد لامستُ في وجهِها الشغوف المليء بالحياة حينها، وجعًا يُجيب عن كيفَ تُقتل الحياة في أرواحٍ كانت مغمورةً بالتفاؤل والأمل.
كانت إجابةُ أمي سؤالًا أيضًا، "بل هل نحنُ الآن نعيشُ الحياة، أم سنبقى نعيشُ بين الحياةِ والموت! "، وأجبتُها بسؤالٍ آخر، أو بالأحرى بِبُؤسٍ محفورٍ بالكلمات: "بل يا أمي أيهُما أصعب الموت، أم النجاةُ من الموت!". مُكملةً الحديث بسؤالٍ تِلَوَ السؤال " أمي في الحرب كيفَ لإنسان حيٍّ من الخارج و ميتٍ من الداخل أن يُعيد لنفسهِ الحياة في وقتٍ يعيشهُ فقدت فيه كلُّ معالم الحياة؟
أجابتني قائلة "سأختصرُها عليكِ يا بُنيتي، وأُجيبكِ بدايةً بكلامِ من زرعَ بداخلِنا هذا الأمل الذي أراهُ بعينيكِ.
سأنصحُك دومًا بأنَّ لا يأسَ مع الحياة ولا حياةَ مع اليأس، إن الله الذي وضعَ هذه الرُوح لن يأخُذُها غيره، ووحدهُ قادرٌ فقط على أن يُصيبكَ بأمرٍ كان قد كتبُه عليكِ، ولو اجتمع أهلَ هذهِ الأرض على أن يضرُّوك بشيء، ولم يكتبه الله لك لن يحدث، كوني على ثقة أنَّ من أخرجَ يُونس من بطن الحوت، وإبراهيم من النار، وأحيا العظامَ وهيَ ميتة، وأوقدَ الأملَ في رُوحٍ كروحكِ، مهما أكدرتهُ الحياة، ومالَ بها من حُزنٍ ويأس، سيُحيي الأملَ فيكِ من جديد.
أجابتني بهذا الكَمِّ الهائل من الإيمانِ والاحتساب والعرقُ يتصبَبُّ في جبينِ كِلتينَا جرَّاء النار المُلتهبة التي أُوقدِت لنصنعَ طعامنا المُتكرر بشكلٍ شبه يومي العدَس الشحيح وُجوده آنذاك لِمُعاقبتنا من الاحتلال عن طريق التجويع لِسُكانِّ شمال قطاع غزة الذين رفضوا التهجير والنُزوح للجنوب بحرماننا من الطعام والماء والغاز، وكل مقوماتِ الحياة بشكلٍ قاسٍ أوقعَ الكثير من الوفيات وقتها جرَّاء الجوع الخانق علينا.
ولم أستغرب من كونِ حوارِنا قد كانَ مزيجًا من الأسئلةِ، ففي الحرب كُل شيءٍ يدعوكَ إلى التساؤل من هولِ ما تعيشُه وهولِ ما ترى، ولا شيء إطلاقا سيُعطيكَ إجابةً لكلُّ هذه التساؤلات التي لا تنتهي
ستجدُ نفسكَ في الحرب إنسانا حائرًا ضائعًا مُشتتًا لا تسعفه الكلمات حينَ يُريد إخراجَ ما يشعُر به.
ستجدُ نفسكَ في الحرب إنسانا يحملُ الكثيرَ والكثيرَ بداخلهِ، ولكن هَيهَاتَ أن تَستطع أن تُترجمهُ لأحد وبنفس ما تُريدُ قوله.
ستجدُ نفسك في الحرب إنسانا مهما بَلُغَ في العمر مشاعرُه تُشبه مشاعرَ الأطفال البريئة، كطفلٍ خائفٍ مذعور يحتاجُ فقط الأمان والحنان ممن بِقُربه.
ستجدُ نفسكَ في الحرب إنسانا دمعتُه لا تتوقف، سجينُ أفكارٍ سوداوية تُشبه في ضبابيتها رُكام البيوت المُدمرةِ من كُلِّ صوبٍ حوله.
ستجدُ نفسكَ في الحرب إنسانا قلبُه على كَفِّ الريح، كُلَّ نبضةً تُنبض فيه جُلُّها مشاعرٌ حزينة يُذعر من أن تتوقف عن الحياة فجأةً، وجعًا على ما يسودُ في أعماقه.
وكما قيلَ سابقًا "كل الذين نجُوا من الموت نجوا بأعجوبة" للوهلةِ الأولى التي تُراودكَ كإنسان بطبيعته الفطرية، يُحب الحياة ويستهوي كُلَّ ما يُرفهُ عنه فيها من ملذاتها ومُغرياتها، ستنبذُ الموت وستنبذُ فكرةَ أن تحيا بلا شعور بلا نبضٍ بلا حياة..
ستُقاوم وتُجاهد لأن تحصل على الحَياةِ. فإن لم تُحْيِّكَ الحياة، خُذ الحياةَ من الحياةِ عنوةً.
وهذا بالأحق حالُ كل إنسان يعيش في غزة بين كنَف الحرب والموت، لذلك حينَ رأيتُ طفلًا أعرف كم هو من الداخل خائف، جراءَ ما تعرض له من صدماتٍ نفسية لا تُعد مما عاشهُ في أجواءِ الحرب المُرُعبة، وأجدهُ في مرةٍ قبل فترة يرقصُ فرحًا لأمِّه الغزَّاوية "الأم الحديديَّة" المعطاءة التي أعدت لهُ خبزًا من عَلَفِ الحيوانات الشحيح في شمالِ القطاع المُحاصر، أستذكر محمود درويش حين قال:
"ونحن نُحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا".
في الاستديو الخاص بي الذي التقطُت بهِ صورًا لغزة بالحرب التي أوقِنُ إن رآها أحدٌ ما سيذُهل من جمالِ معالمهَا حتى وهيَ مكسورة، سيجدُ في الصور رُوحًا للبيتِ المُهدَّم، وسيظلُّ مُستغربًا من قوةِ، وَجبرُوت هذهِ المدينة وصلابةِ أهلها وبُنيانِها وشوارعها وعدمِ رُكوعهَا لِلذُلِّ في احتضارها.
في صورةٍ التقطتُها حين نُزحتُ للمرة العاشرة من مكانٍ لمكان كحال كل مواطن يعيش في غزة، نزوحٌ مُستمر لا ينتهي، هه ! مُستغربةً من حجم أملنا وثقتنا أنهُ من الممكن أن نحتمي من الموتِ حينَ ننزح لمكانٍ آخر، ونحنُ على علمٍ حقيقي بما نرى بأعيُننا، ونسمع بآذاننا أن الموت يلُفنا من كل اتجاه، وفي كل زمانٍ ومكان، من شمال غزة لغربها وتحديدًا في شارعِ الجلاء عصرًا، تراجيديا مُهيبة للعين،ذُهلت بشدةٍ؛ مما رأيت عجوزٌ عُمره يقول إنه قد عاصر النكبة قديمًا يُطعمُ أطفال ابنه الذي عاش النكسة وأحفادهُ من يعيشونَ نكبة ونكسة غزةَ الآن، متسائلة باستغراب:
شعبٌ كهذا شيخُه يُطعم حفيدهُ على بُنيانهم المُدمر بلا خوفٍ من الطائرات التي تحوم فوقهم والقذائف العشوائية التي تُقذف من كل صوب نحوهم، كيف لهُ أن يُهزم؟
أُجيبُ ساخرة" صاحبُ الحق، لا يهابُ شيئًا في سبيل أن ينولَ قضيته، ولو اقتلعها اقتلاعًا من أنيابِ الموت!"
ففي الحرب كُل شيءٍ يدعوكَ للتساؤل من هولِ ما تعيشُه وهولِ ما ترى، ولا شيء إطلاقا سيُعطيكَ إجابةً لكلُّ هذه التساؤلات التي لا تنتهي.
ستجدُ نفسكَ في الحرب إنسانا حائرًا ضائعًا مُشتتًا لا تسعفه الكلمات حينَ يُريد إخراجَ ما يشعُر به.
ستجدُ نفسكَ في الحرب إنسانا يحملُ الكثيرَ والكثيرَ بداخلهِ، ولكن هَيهَاتَ أن تَستطع أن تُترجمهُ لأحد وبنفس ما تُريدُ قوله.
ستجدُ نفسك في الحرب إنسانا مهما بَلُغَ في العمر مشاعرُه تُشبه مشاعرَ الأطفال البريئة، كطفلٍ خائفٍ مذعور يحتاجُ فقط الأمان والحنان ممن بِقُربه.
ستجدُ نفسكَ في الحرب إنسانا دمعتُه لا تتوقف، سجينُ أفكارٍ سوداوية تُشبه في ضبابيتها رُكام البيوت المُدمرةِ من كُلِّ صوبٍ حوله.
ستجدُ نفسكَ في الحرب إنسانا قلبُه على كَفِّ الريح، كُلَّ نبضةً تُنبض فيه جُلُّها مشاعرٌ حزينة يُذعر من أن تتوقف عن الحياة فجأةً، وجعًا على ما يسودُ في أعماقه.